منذ أن سقط دم الإمام الحسين بدأت معه مسيرة الشعر والشعراء وعلت الأصوات المنددة بقتل الحسين(ع) وكان لمشاعر الظلم والحزن التي أصابت نفوس المسلمين بعد حادثة كربلاء أثرها البالغ في المجتمع والذي تجاوز حدود الرثاء إلى المطالبة بالثورة وخاصة عند التوابين يقول سليمان بن قتة العدوي:
وإن قتيلَ الطفِ من آلِ هاشمٍ *** أذلّ رقابَ المسلمينَ فذلّتِ
ويقول عبيد الله بن الحر الجعفي من قصيدة طويلة يتحسر على عدم نصرته للحسين(ع):
فيا ندمي ألا أكون نصرته *** ألا كل نفس لا تسدد نادمه
وإني لأني لم أكن من حماته *** لذو حسرة ما أن تفارق لازمه
هذه الأشعار وغيرها الكثير وخاصة من أشعار التوابين كانت نتيجة الشعور بأن قوى الخير لا تزال مستهدفة ما لم تكن هناك كربلاء وكربلاء تعني الثورة تعني الحرية تعني مبادئ الخير والصلاح التي جسدها الإمام الحسين(ع) على ثراها ومثلما أصبحت كربلاء النشيد الحزين لدى الشاعر فقد أصبحت أنشودته الحماسية في التنديد بالظلم وكل الثورات التي أعقبت ثورة الحسين استمدت من كربلاء هذا المعنى وأصبحت كربلاء المثال والرمز الرافض للظلم وعلت أصوات الشعراء باسم كربلاء سليمان بن قتة العدوي وعبيد الله بن الحر الجعفي وعقبة بن عمرو السهمي وأبو الرميح الخزاعي ويزيد بن مفرغ الحميري ووهب بن زمعة وبشر بن حذلم وعبد الله بن عمرو البدي وأبو الأسود الدؤلي وعامر بن يزيد العبدي والفضل بن العباس الهاشمي وعوف بن الأحمر الأزدي والمغيرة بن نوفل وعبد الله بن الزبير الأسدي وخالد بن المهاجر وتبعهم كبار شعراء العصر الأموي الكميت بن زيد الأسدي والسيد الحميري وسفيان بن مصعب العبدي وسيف بن عميرة النخعي وجعفر بن عفان وكثير بن عبد الرحمن وغيرهم الكثير.
ومن الضروري الحديث عن الجريمة التي ارتكبها الأمويون والتي تضاف إلى سجل جرائمهم وهي جريمة قتل الكثير من شعر كربلاء والذي يمثل ذروة التراث الإسلامي ومحاولة إبادته لما يشكله من رعب لهم لأنه يكشف جرائمهم ويثير الرأي العام ضدهم فالسيد الحميري مثلاً وهو شاعر أهل البيت كان من الشعراء الثلاثة الذين لا يدرك شعرهم لكثرته وهم بشار وأبو العتاهية وفي مقدمتهم السيد كما وصفه جميع المؤرخين حتى قال أحد معاصريه: (جمعت للسيد ألفي قصيدة، وظننت أنه ما بقي عليّ شيء، فكنت لا أزال أرى من ينشدني ما ليس عندي فكتبت حتى ضجرت، ثم تركت!!). ولكنك تتفاجأ حينما تقارن بين هذا القول وبين ديوانه المطبوع والذي لا يحتوي سوى قصائد ومقطوعات معدودة !! وتستمر عملية الإبادة الشعرية، فالكميت بن زيد الأسدي يموت مخلّفاً (خمسة آلاف ومائتين وتسعة وثمانين بيتاً) (5289) كما ذكر ذلك أبو الفرج الأصفهاني في (الأغاني) والطبري في (تاريخه) ولكن شعره الآن لا يساوي ربع هذا العدد ! وهناك من الشعراء من اختفى اسمه مع شعره، فقد ذكر الطبري في تاريخه: (إن عبد الله بن عمرو البدّي من أشجع الناس، وأشعرهم، وأشدهم حباً لعلي) ولكن هل تجد لهذا الشاعر المتفرّد بين الشعراء والفارس الشجاع شعرا يليق بمكانته ؟
وكم من أمثال هذا الشاعر الفارس قد أضاعهم التاريخ أو بالأحرى المؤرخون؟ يقول أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني: (كانت الشعراء لا تقدم على رثاء الحسين مخافة من بني أمية وخشية منهم) كما ضاع أو أُضيع الكثير من شعر التوابين (وكان مما قيل في ذلك قول أعشى همدان) كما ذكر الطبري وكان يسمى شعر (المكتّمات). وقد أورد ابن الأثير قصيدة منه في تاريخه وهي في رثاء التوابين منها:
فساروا وهم ما بين ملتمسِ التقى *** وآخر مما جرّ بالأمسِ تائبِ
فلاقوا بعينِ الوردةِ الجيشَ فاصلاً *** إليهم فحسّوهم ببيضٍ قواضبِ
يمانيةً تذري الأكفّ وتارةً *** بخيلٍ عتاقٍ مقرباتٍ سلاهبِ
وهي قصيدة طويلة ذكرها السيد الأمين في أعيان الشيعة (ج35ص328) وقال عنها ابن الأثير: (وهي مما يكتم في ذلك الزمان)، كما يورد المرزباني (مكتّمة) أخرى لعوف بن عبد الله الأزدي وهو ممن شهد مع أمير المؤمنين في صفين ومن التوابين وله قصيدة في رثاء الحسين(ع) قال عنها المرزباني إنها كانت تخبأ أيام بني أمية وإنما خرجت بعدهم ويوردها الشيخ عباس القمي في (الكنى والألقاب) ومنها:
وقولوا له إذ قام يدعو إلى الهدى *** وقبل الدعا لبيك لبيك داعيا
سقى الله قبراً ضمّن المجدَ والتقى *** بغربيةِ الطفِ الغمامَ الغواديا
فيا أمةً تاهت وضلّت سفاهةً *** أنيبوا فأرضوا الواحدَ المتعاليا
ويقول السيد جواد شبر في أدب الطف (بين أيدينا مجاميع خطية في المكتبات العامة والخاصة وفيها المئات من القصائد الحسينية ولم يذكر اسم ناظمها وقائلها) ومن الطبيعي أن يكون من هذه القصائد إما من المكتّمات التي أخفى شاعرها اسمه أو من التي أضاعها المؤرخون بسبب التعصب الأعمى فبقيت محفوظة في مخطوطات منزوية في رفوف المكتبات قد يقدر لها أن ترى النور ويدلنا كتاب (منتهى الطلب من أشعار العرب) لإبن المبارك (محمد بن المبارك بن محمد بن ميمون البغدادي المتوفى سنة 597ه) المجلد الأول ص(10) من مخطوطة دار الكتب المصرية رقم (53) على واحدة من هذه الجرائم التي ارتكبها الأمويون في إضاعة التراث الأدبي والفكري فعندما يتطرق ابن المبارك إلى قصيدة كعب بن زهير في بداية كتابه يقول: (وقال كعب في مدح أمير المؤمنين، وكانت بنوا أمية تنهى عن روايتها وإضافتها إلى شعره) ومطلع قصيدة كعب:
هل حبلُ رملةَ قبل المينِ مبتورُ *** أم أنتَ بالحلمِ بعد الجهلِ معذورُ
وجاء في هذه القصيدة:
صهرُ النبي وخيرُ الناسِ مفتخراً *** فكل من رامَه بالفخرِ مفخورُ
صلى الطهورُ مع الأميّ أوّلهم *** قبلَ المعادِ وربُ الناسِ مكفورُ
مقاومٌ لطغاةِ الشركِ يضربُهم *** حتى استقاموا ودينُ اللهِ منصورُ
وقد أشار إليها شارح ديوان كعب بن زهير الذي نشرته دار القومية للطباعة والنشر، كما ظهر في ذلك الوقت شعر (الجداريات)، وهو الشعر الذي كان يكتبه الشاعر على جدران الأماكن التي أعدت للاستراحة في السفر فيمر بها الناس ويقرؤونها وتتناقل على الألسن ولا يعرفون لمن هي، وقد اشتهر بذلك الشاعر يزيد بن مفرغ الحميري الذي كان من الشعراء الذين رثوا الحسين(ع) كما عُرف بهجائه الشديد للأمويين فناله منهم أشد العذاب والتنكيل حيث يقول في إحدى قصائده يندد بجرائم عبيد الله بن زياد ويؤلب على قتله ويتحرق أسفاً على إراقته الدماء الزكية:
كم يا عبيد الله عندكَ من دمٍ *** يسعى ليدركه بقتلكَ ساعي
ومعاشرٌ أنفٌ أبحتَ دماءهم *** فرقتهم من بعد طولِ جماعِ
اذكر حسيناً وابن عروة هانئاً *** وبني عقيل فارس المرباعِ
والحديث عن جريمة قتل الأمويين للتراث الإسلامي يطول وهناك شواهد أخرى كثيرة تركناها خشية الإطالة ونكتفي بهذا القدر لنتأمل في الأبيات التي تناولت كربلاء في الشعر الأموي ونؤكد على التنويه إننا تتبعنا الأبيات التي وردت فيها كلمة كربلاء فقط في شعر الرثاء الحسيني في العصر الأموي كونها تحمل معاني كثيرة وخاصة في ذلك العصر الدموي وهي هذه مع شعرائها:
1 ــــ السيد الحميري: (105 ــــ 178ه/723 ــــ 789م)
أبو هاشم إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري ولد في عُمان ونشأ في البصرة ومات في بغداد وهو حفيد الشاعر يزيد بن مفرغ الحميري وأحد الشعراء الثلاثة الذين لا يحصر شعرهم وهو السيد الحميري وبشار وأبو العتاهية أطلق عليه الإمام الصادق لقب (سيد الشعراء) فعرف بالسيد كان في بداية حياته أباضياً فتشيع على يد الإمام الصادق له مناظرات ومحاججات في علم الكلام حول أحقية أمير المؤمنين بالخلافة مع القاضي سوار وغيره وللسيد عدة رثائيات في الحسين(ع) عدا التي فقدت يقول من قصيدة لم نجد منها سوى مطلعها:
(كربلا) يا دارَ كربٍ وبلا *** وبها سبطُ النبي قد قُتلا
وله في رثاء الحسين(ع) قصيدة مشهورة منها:
أمرر على جدثِ الحسيــ *** ــنِ وقل لأعظمهِ الزكية
يا أعظماً لا زلتِ من *** وطفاء ساكبة روية
ما لذ عيشٌ بعد رضــ *** ـــكِ بالجيادِ الأعوجية
قبراً تضمّنَ طيباً *** آباؤه خير البرية
والخير والشيم المهذّ *** بة المطيبة الرضية
2 ـــــ بشر بن حذلم
بشر بن حذلم: عدّه السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة من أصحاب الإمام علي بن الحسين(ع) وقال: ذكره السيد علي بن طاووس في (اللهوف على قتلى الطفوف). وخبر لقائه مع الإمام علي بن الحسين (ع) على أطراف المدينة حين رجوع السبايا إليها مشهور حيث قال له (ع): (يا بشر رحم الله أباك لقد كان شاعرا فهل تقدر على شئ منه) قال: بلى يا ابن رسول الله إني لشاعر فطلب (ع) منه أن يدخل المدينة وينعى الحسين ففعل ويتضح من كلام الإمام (ع) وترحمه على والد بشر إنهما كانا شاعرين مواليين لأهل البيت وقد نعى بشر الحسين ببيتين هما:
يا أهل يثري لا مقام لكم بها *** قتل الحسين فأدمعي مدرارُ
الجسمُ منه بـ (كربلاء) مضرّجٌ *** والرأسُ منه على القناةِ يُدارُ
3 ــــ جعفر بن عفان : توفي (150ه)
أبو عبد الله جعفر بن عفان الطائي: من أصحاب الإمام الصادق(ع) وكان مقربا منه ومن شعراء الكوفة المخلصين لأهل البيت(ع) وله مراث كثيرة في الحسين قال له الإمام الصادق(ع) عندما أنشده شعرا في الحسين(ع): (يا جعفر والله لقد شهدت لك ملائكة الله المقربون وهم يسمعون قولك في الحسين، ولقد أوجب الله تعالى لك يا جعفر في ساعتك الجنة وغفر لك) ولجعفر بن عفان قصائد ومقطوعات في رثاء الحسين منها:
(أذاقته حرَّ القتلِ أمّة جدهِ *** هفت رجلها في (كربلاء) وزلّتِ)
فلا قدس الرحمن أمة جده *** وإن هي صامت للإله وصلت
كما فجعت بنت الرسول بنسلها *** وكانوا كماة الحرب حين استقلت
4 ــــ سيف بن عميرة النخعي
من أصحاب الإمام الصادق والكاظم (ع) ومن الثقاة والعلماء والمصنفين عده ابن النديم في فهرسه ص(322) من فقهاء الشيعة الذين رووا الفقه عن الإئمة (ع) وذكره السيد بحر العلوم في الجزء الثالث من رجاله وقال: (روى عن الصادق والكاظم وهو أحد الثقاة المكثرين والعلماء المصنفين له كتاب جمع فيه مشاهير الثقاة) وذكر مثل ذلك المامقاني في (تنقيح المقال) ولسيف قصيدة طويلة في أهل البيت(ع) تبلغ (106) بيت خص منها جزء كبيرا في رثاء الحسين(ع) منها هذه المقطوعة التي يلتهب فيها الحزن واللوعة:
هذا الحسينُ لقىً بعرصةِ (كربلا) *** ظمآنُ دامي الخدِ ثم المنحرِ
عارٍ بلا كفنٍ ولا غسلٍ سوى *** مورِ الرياحِ ثلاثةٌ لم يقبرِ
مقطوعُ رأسٍ هشّمت أضلاعُه *** وكسير ظهرٍ كسرُه لم يجبرِ
كما تشترك مع سمات الحزن في القصيدة المكانة المقدسة للحسين(ع) عند الله عندما تمطر السماء دما لمقتله يقول سيف:
وعليه أمطرت السماء وقبله *** يحيى دماً وسواهما لم تمطرِ
وهوى يدور الأفق في أفلاكها *** فكأنما من قبله لم تبدرِ
(وكأنما أفلاكها في (كربلا) *** أو (كربلا) صارت فريقَ المنبرِ)
(يا (كربلاء) حويت ما لم تحوه *** أرض سواك من الضياء النيرِ)
5 ــــ عقبة بن عمرو السهمي
عقبة بن عمرو السهمي من بني سهم بن عوف بن غالب قصد (كربلاء) في أواخر المائة الأولى لزيارة قبر الحسين (ع) فوقف على القبر وأنشد سبعة أبيات قال السيد الأمين في (أعيان الشيعة) وسبط بن الجوزي في (تذكرة الخواص) والطريحي في (المنتخب): إنها أول شعر رُثي به الحسين (ع) ويظهر من أبياته إن الزوار كانوا يتوافدون على قبر الحسين في ذلك الوقت:
مررتُ على قبرِ الحسينِ بـ (كربلا) *** ففاض عليه من دموعي غزيرُها
وما زلتُ أبكيه وأرثي لشجوه *** ويسعدُ عيني دمعُها وزفيرُها
وبكّيت من بعد الحسينِ عصائباً *** أطافت به من جانبيه قبورُها
إذا العين قرّت في الحياةِ وأنتمُ *** تخافونَ في الدنيا فأظلم نورُها
سلامٌ على أهلِ القبورِ بـ (كربلا) *** وقلّ لها مني سلامٌ يزورُها
سلامٌ بآصالِ العشي وبالضحى *** تؤدّيه نكباءُ الرياحِ ومورُها
ولا برحَ الوفّاد زوارُ قبرهِ *** يفوحُ عليهم مسكُها وعبيرُها
6 ـــــ كثير بن عبد الرحمن: (40 ـــــ 105ه/660 ـــــ 723م)
كُثير بن عبد الرحمن بن الأسود بن مليح الخزاعي ولد في المدينة في آخر خلافة يزيد بن عبد الملك وأقام بمصر أكثر حياته واشتهر بعزة بنت جميل توفي بالحجاز ولكثير قصيدة في ديوانه في الإمام علي وأولاده الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية(ع) مطلعها: